فصل: تفسير الآيات رقم (1- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة محمد

وتسمى سورة القتال وهي مدنية وقيل مكية وآيها سبع أو ثمان وثلاثون أو أربعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ امتنعوا عن الدخول في الإِسلام وسلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب‏.‏ أو عام في جميع من كفر وصد‏.‏ ‏{‏أَضَلَّ أعمالهم‏}‏ جعل مكارمهم كصلة الرحم وفك الأسارى وحفظ الجوار ضالة أي ضائعة محيطة بالكفر، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه الله، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله‏.‏

‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم‏.‏ ‏{‏وَءَامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ‏}‏ تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيماً له وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ‏}‏ اعتراضاً على طريقة الحصر‏.‏ وقيل حقيقته بكونه ناسخاً لا ينسخ، وقرئ «نَزَّلَ» على البناء للفاعل و«أنزل» على البناءين و«نَزَلَ» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم‏}‏ سترها بالإِيمان وعملهم الصالح‏.‏ ‏{‏وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ‏}‏ في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما مر من الإِضلال والتكفير والإِصلاح وهو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِِّهِمْ‏}‏ بسبب اتباع هؤلاء الباطل واتباع هؤلاء الحق، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها ولذلك سمي تفسيراً‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الضرب‏.‏ ‏{‏يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ‏}‏ يبين لهم‏.‏ ‏{‏أمثالهم‏}‏ أحوال الفريقين أو أحوال الناس، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار والإِضلال مثلاً لخيبتهم واتباع الحق مثلاً للمؤمنين، وتكفير السيئات مثلاً لفوزهم‏.‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ في المحاربة‏.‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ضماً إلى التأكيد والاختصار‏.‏ والتعبير به عن القتل إشعاراً بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن، وتصوير له بأشنع صورة‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ‏}‏ أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ‏.‏ ‏{‏فَشُدُّواْ الوثاق‏}‏ فأسروهم واحفظوهم، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به‏.‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً‏}‏ أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإِطلاق وبين أخذ الفداء، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإِمام بين القتل والمن والفداء، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق‏.‏ وقرئ «فدا» كعصا‏.‏

‏{‏حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا‏}‏ آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم‏.‏ وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم‏.‏ وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك‏.‏ ‏{‏وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ‏}‏ لا نتقم منهم بالاستئصال‏.‏ ‏{‏ولكن لّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر‏.‏ ‏{‏والذين قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي جاهدوا، وقرأ البصريان وحفص «قَتِلُواْ» أي استشهدوا‏.‏ ‏{‏فَلَن يُضِلَّ أعمالهم‏}‏ فلن يضيعها، وقرئ «يُضِلَّ» من ضل ويضل على البناء للمفعول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 15‏]‏

‏{‏سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَهْدِيهِمْ‏}‏ إلى الثواب، أو سيثبت هدايتهم‏.‏ ‏{‏وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ وقد عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها فعملوا ما استحقوها به، أو بينها لهم بحيث يعلم كل واحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق، أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة، أو حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة‏.‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله‏}‏ إن تنصروا دينه ورسوله‏.‏ ‏{‏يَنصُرْكُمُ‏}‏ على عدوكم‏.‏ ‏{‏وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ في القيام بحقوق الإِسلام والمجاهدة مع الكفار‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ‏}‏ فعثوراً لهم وانحطاطاً ونقضه لما قال الأعشى‏:‏

فالتعس أولى بها من أن أقول لَعَا *** وانتصابه بفعله الواجب إضماره سماعاً، والجملة خبر ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ أو مفسرة لناصبه‏.‏ ‏{‏وَأَضَلَّ أعمالهم‏}‏ عطف عليه‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله‏}‏ القرآن لما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم، وهو تخصيص وتصريح بسببه الكفر بالقرآن للتعس والإِضلال‏.‏ ‏{‏فَأَحْبَطَ أعمالهم‏}‏ كرره إشعاراً بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ استأصل عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم‏.‏ ‏{‏وللكافرين‏}‏ من وضع الظاهر موضع المضمر‏.‏ ‏{‏أمثالها‏}‏ أمثال تلك العاقبة أو العقوبة، أو الهلكة لأن التدمير يدل عليها، أو السنة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ‏}‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ‏}‏ ناصرهم على أعدائهم‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ‏}‏ فيدفع العذاب عنهم وهو لا يخالف قوله‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق‏}‏ فإن المولى فيه بمعنى المالك‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ‏}‏ ينتفعون بمتاع الدنيا‏.‏ ‏{‏وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام‏}‏ حريصين غافلين عن العاقبة‏.‏ ‏{‏والنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ منزل ومقام‏.‏

‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ‏}‏ على حذف المضاف وإجراء أحكامه على المضاف إليه، والإِخراج باعتبار التسبب‏.‏ ‏{‏أهلكناهم‏}‏ بأنواع العذاب‏.‏ ‏{‏فَلاَ ناصر لَهُمْ‏}‏ يدفع عنهم العذاب وهو كالحال المحكية‏.‏

‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ حجة من عنده وهو القرآن، أو ما يعمه والحجج العقلية كالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ ‏{‏كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏}‏ كالشرك والمعاصي‏.‏ ‏{‏واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ في ذلك لا شبهة لهم عليه فضلاً عن حجة‏.‏

‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون‏}‏ أي فيما قصصنا عليك صفتها العجيبة‏.‏ وقيل مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار‏}‏، وتقدير الكلام أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد، أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فعري عن حرف الإِنكار وحذف ما حذف استغناء يجري مثله تصويراً لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع للهوى، بمكابرة من يسوي بين الجنة والنار، وهو على الأول خبر محذوف تقديره‏:‏ أفمن هو خالد في هذه الجنة كمن هو خالد في النار، أو بدل من قوله‏:‏ ‏{‏كَمَن زُيّنَ‏}‏ وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقريراً لإِنكار المساواة‏.‏

‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاءٍ غَيْرِ ءاسِنٍ‏}‏ استئناف لشرح المثل أو حال من العائد المحذوف، أو خبر لمثل و‏{‏ءاسِنٍ‏}‏ من أسن الماء بالفتح إذا تغير طعمه وريحه، أو بالكسر على معنى الحدوث‏.‏ وقرأ ابن كثير «أسن»‏.‏ ‏{‏وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ‏}‏ لم يصر قارصاً ولا حازراً‏.‏ ‏{‏وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين‏}‏ لذيذة لا يكون فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار تأنيث لذ أو مصدر نعت به بإضمار ذات، أو تجوز وقرئت بالرفع على صفة الأنهار والنصب على العلة‏.‏ ‏{‏وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ لم يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها، وفي ذلك تمثيل لما يقوم مقام الأشربة في الجنة بأنواع ما يستلذ منها في الدنيا بالتجريد عما ينقصها وينغصها، والتوصيف بما يوجب غزارتها واستمرارها‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات‏}‏ صنف على هذا القياس‏.‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ‏}‏ عطف على الصنف المحذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم مغفرة‏.‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار وَسُقُواْ مَاءً حَمِيماً‏}‏ مكان تلك الأشربة‏.‏ ‏{‏فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ‏}‏ من فرط الحرارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ‏}‏ يعني المنافقين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون كلامه فإذا خرجوا ‏{‏قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم‏}‏ أي لعلماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏ ‏{‏مَاذَا قَالَ ءانِفاً‏}‏ ما الذي قال الساعة، استهزاء أو استعلاماً إذا لم يلقوا له آذانهم تهاوناً به، و‏{‏ءانِفاً‏}‏ من قولهم أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة، ومنه استأنف وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتاً مؤتنفاً، أو حال من الضمير في ‏{‏قَالَ‏}‏ وقرأ ابن كثير «أنفاً»‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ فلذلك استهزؤوا وتهاونوا بكلامه‏.‏

‏{‏والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ أي زادهم الله بالتوفيق والإِلهام، أو قول الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وَآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ‏}‏ بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها‏.‏

‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة‏}‏ فهل ينتظرون غيرها‏.‏ ‏{‏أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً‏}‏ بدل اشتمال من ‏{‏الساعة‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا‏}‏ كالعلة له، وقرئ أن تأتهم على أنه شرط مستأنف جزاؤه‏:‏ ‏{‏فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ‏}‏ والمعنى أن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها كمبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وانشقاق القمر فكيف لهم ‏{‏ذِكْرَاهُمْ‏}‏ أي تذكرهم ‏{‏إِذَا جَاءتْهُمُ‏}‏ الساعة بغتة، وحينئذ لا يفرغ له ولا ينفع‏.‏

‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله واستغفر لِذَنبِكَ‏}‏ أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاؤة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها وهضمها بالاستغفار ‏{‏لِذَنبِكِ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات‏}‏ ولذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعي غفرانهم، وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وأنها جنس آخر، فإن الذنب له ماله تبعة ما بترك الأولى‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ‏}‏ في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها‏.‏ ‏{‏وَمَثْوَاكُمْ‏}‏ في العقبى فإنها دار إقامتكم فاتقوا الله واستغفروه وأعدوا لمعادكم‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ‏}‏ أي هلا ‏{‏نُزّلَتْ سُورَةٌ‏}‏ في أمر الجهاد‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ‏}‏ مبينة لا تشابه فيها‏.‏ ‏{‏وَذُكِرَ فِيهَا القتال‏}‏ أي الأمر به‏.‏ ‏{‏رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ ضعف في الدين وقيل نفاق‏.‏ ‏{‏يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت‏}‏ جبناً ومخافة‏.‏ ‏{‏فأولى لَهُمْ‏}‏ فويل ‏{‏لَهُمْ‏}‏، أفعل من الولي وهو القرب، أو فعلى من آل ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ استئناف أي أمرهم ‏{‏طَاعَةٌ‏}‏ أو ‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ خير لهم، أو حكاية قولهم لقراءة أُبيّ «يقولون طاعة»‏.‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأمر‏}‏ أي جد وهو لأصحاب الأمر، وإسناده إليه مجاز وعامل الظرف محذوف، وقيل ‏{‏فَلَوْ صَدَقُواْ الله‏}‏ أي فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإِيمان‏.‏ ‏{‏لَكَانَ‏}‏ الصدق‏.‏ ‏{‏خَيْراً لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏ فهل يتوقع منكم‏.‏ ‏{‏إِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أمور الناس وتأمرتم عليهم، أو اعرضتم وتوليتم عن الإِسلام‏.‏ ‏{‏أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ‏}‏ تناحراً على الولاية وتجاذباً لها، أو رجوعاً إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب، والمعنى أنهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم ويقول لهم‏:‏ هل عسيتم، وهذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يلحقون الضمير به وخبره ‏{‏أَن تُفْسِدُواْ‏}‏ و‏{‏إِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ اعتراض، وعن يعقوب ‏{‏تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي إن تولاكم ظلمة خرجتم معهم وساعدتموهم في الإِفساد وقطيعة الرحم ‏{‏وَتُقَطّعُواْ‏}‏ من القطع، وقرئ ‏{‏تقطعوا‏}‏ من التقطع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 30‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين‏.‏ ‏{‏الذين لَعَنَهُمُ الله‏}‏ لإِفسادهم وقطعهم الأرحام‏.‏ ‏{‏فَأَصَمَّهُمْ‏}‏ عن استماع الحق‏.‏ ‏{‏وأعمى أبصارهم‏}‏ فلا يهتدون سبيله‏.‏

‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان‏}‏ يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي‏.‏ ‏{‏أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ لا يصل إليها ذكر ولا ينكشف لها أمر، وقيل ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير، وتنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم أو للإِشعار بأنها لإِبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها ونكرها كأنها مبهمة منكورة وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة‏.‏ وقرئ «إقفالها» على المصدر‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم‏}‏ أي ما كانوا عليه من الكفر‏.‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى‏}‏ بالدلائل الواضحة والمعجزات الظاهرة‏.‏ ‏{‏الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ‏}‏ سهل لهم اقتراف الكبائر من السول وهو الاسترخاء‏.‏ وقيل حملهم على الشهوات من السول وهو التمني، وفيه أن السول مهموز قلبت همزته واواً لضم ما قبلها ولا كذلك التسويل، ويمكن رده بقولهم هما يتساولان وقرئ «سَوَّلَ» على تقدير مضاف أي كيد الشيطان ‏{‏سَوَّلَ لَهُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏وأملى لَهُمْ‏}‏ ومد لهم في الآمال والأماني، أو أمهلهم الله تعالى ولم يعاجلهم بالعقوبة لقراءة يعقوب «وَأمْلِي لَهُمْ»، أي وأنا أملي لهم فتكون الواو للحال أو الاستئناف، وقرأ أبو عمرو «وَأمْلِي لَهُمْ» على البناء للمفعول وهو ضمير ‏{‏الشيطان‏}‏ أو ‏{‏لَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله‏}‏ أي قال اليهود للذين كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام بعدما تبين لهم نعته للمنافقين، أو المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين‏.‏ ‏{‏سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر‏}‏ في بعض أموركم أو في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد والموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا، والتظافر على الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ‏}‏ ومنها قولهم هذا الذي أفشاه الله عليهم، وقرأ حمزة والكسائي وحفص «إِسْرَارَهُمْ»على المصدر‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة‏}‏ فكيف يعملون ويحتالون حينئذ، وقرئ «توفاهم» وهو يحتمل الماضي والمضارع المحذوف إحدى تاءيه‏.‏ ‏{‏يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم‏}‏ تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى التوفي الموصوف‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله‏}‏ من الكفر ككتمان نعت الرسول عليه الصلاة والسلام وعصيان الأمر‏.‏ ‏{‏وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ‏}‏ ما يرضاه من الإِيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات‏.‏ ‏{‏فَأَحْبَطَ أعمالهم‏}‏ لذلك‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن يُخْرِجَ الله‏}‏ أن لن يبرز الله لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ ‏{‏أضغانهم‏}‏ أَحقادهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لأريناكهم‏}‏ لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم‏.‏ ‏{‏فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم‏}‏ بعلاماتهم التي نسمهم بها، واللام لام الجواب كررت في المعطوف‏.‏ ‏{‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول‏}‏ جواب قسم محذوف و‏{‏لَحْنِ القول‏}‏ أسلوبه، أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية، ومنه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ أعمالكم‏}‏ فيجازيكم على حساب قصدكم إذ الأعمال بالنيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 38‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُم‏}‏ بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة‏.‏ ‏{‏حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين‏}‏ على مشاقه‏.‏ ‏{‏وَنَبْلُوَ أخباركم‏}‏ ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبحها، أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها‏.‏ وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها، وعن يعقوب «وَنَبْلُوَ» بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَاقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى‏}‏ هم قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر‏.‏ ‏{‏لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ بكفرهم وصدهم، أو لن يضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته‏.‏ ‏{‏وَسَيُحْبِطُ أعمالهم‏}‏ ثواب حسنات أعمالهم بذلك، أو مكايدهم التي نصبوها في مشاقته فلا يصلون بها إلى مقاصدهم ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم‏}‏ بما أبطل به هؤلاء كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ عام في كل من مات على كفره وإن صح نزوله في أصحاب القليب، ويدل بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه‏.‏

‏{‏فَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ فلا تضعفوا‏.‏ ‏{‏وَتَدْعُواْ إِلَى السلم‏}‏ ولا تدعوا إلى الصلح خوراً وتذللاً، ويجوز نصبه بإضمار إن وقرئ «ولا تدعوا» من ادعى بمعنى دعا، وقرى أبو بكر وحمزة بكسر السين‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ‏}‏ الأغلبون‏.‏ ‏{‏والله مَعَكُمْ‏}‏ ناصركم‏.‏ ‏{‏وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم‏}‏ ولن يضيع أعمالكم، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقاً به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر، شبه به تعطيل ثواب العمل وإفراده منه‏.‏

‏{‏إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ لإثبات لها‏.‏ ‏{‏وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ‏}‏ ثواب إيمانكم وتقواكم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم‏}‏ جميع أموالكم بل يقتصر على جزء يسير كربع العشر والعشر‏.‏

‏{‏إِنْ يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ‏}‏ فيجهدكم بطلب الكل والإِحفاء والإِلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال‏:‏ أحفى شاربه إذ استأصله‏.‏ ‏{‏تَبْخَلُواْ‏}‏ فلا تعطوا‏.‏ ‏{‏وَيُخْرِجْ أضغانكم‏}‏ ويضغنكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى، ويؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإِضغان، وقرئ «وتخرج» بالتاء والياء ورفع ‏{‏أضغانكم‏}‏‏.‏

‏{‏هَا أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون وقوله‏:‏ ‏{‏تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ استئناف مقرر لذلك، أو صلة ل ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما‏.‏ ‏{‏فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ‏}‏ ناس يبخلون وهو كالدليل على الآية المتقدمة‏.‏

‏{‏وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه، والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإِمساك والتعدي فإنه إمساك عن مستحق‏.‏ ‏{‏والله الغنى وَأَنتُمُ الفقراء‏}‏ فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم‏.‏ ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ‏}‏ عطف على ‏{‏إِن تُؤْمِنُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ‏}‏ يقم مقامكم قوماً آخرين‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم‏}‏ في التولي والزهد في الإِيمان، وهم الفرس ‏"‏ لأنه سئل عليه الصلاة والسلام عنه وكان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه وقال‏:‏ «هذا وقومه» ‏"‏ أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة محمد كان حقاً على الله أن يسقيه من أنهار الجنة ‏"‏‏.‏

سورة الفتح

مدنية نزلت في مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وآيها تسع وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏}‏ وعد بفتح مكة، والتعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر وفدك، أو إخبار عن صلح الحديبية وإنما سماه فتحاً لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح وتسبب لفتح مكة، وفرغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع وأدخل في الإِسلام خلقاً عظيماً، وظهر له في الحديبية آية عظيمة وهي أنه نزح ماؤها بالكلية فتمضمض ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه، أو فتح الروم فإنهم غلبوا الفرس في تلك السنة‏.‏ وقد عرفت كونه فتحاً للرسول عليه الصلاة والسلام في سورة «الروم»‏.‏ وقيل الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل‏.‏

‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله‏}‏ علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إزاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهراً ليصير ذلك بالتدريج اختياراً، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة‏.‏ ‏{‏مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه‏.‏ ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة‏.‏

‏{‏وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً‏}‏ نصراً فيه عز ومنعة، أو يعز به المنصور فوصف بوصفه مبالغة‏.‏

‏{‏هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة‏}‏ الثبات والطمأنينة‏.‏ ‏{‏فِى قُلُوبِ المؤمنين‏}‏ حتى ثبتوا حيث تقلق النفوس وتدحض الأقدام‏.‏ ‏{‏لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم‏}‏ يقيناً مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، أو نزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليزدادوا إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله واليوم الآخر‏.‏ ‏{‏لِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض‏}‏ يدبر أمرها فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع فيما بينهم السلم أخرى كما تقتضيه حكمته‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بالمصالح‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما يقدر ويدبر‏.‏

‏{‏لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا‏}‏ علة بما بعده لما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض‏}‏ من معنى التدبير، أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله فيه ويشكروها فيدخلهم الجنة ويعذب الكفار والمنافقين لما غاظهم من ذلك، أو ‏{‏فَتَحْنَا‏}‏ أو ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أو جميع ما ذكر أو ‏{‏لِيَزْدَادُواْ‏}‏، وقيل إنه بدل منه بدل الاشتمال‏.‏ ‏{‏وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ‏}‏ يغطيها ولا يظهرها‏.‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ أي الإِدخال والتكفير‏.‏ ‏{‏عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر، وعند حال من الفوز‏.‏

‏{‏وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ عطف على ‏{‏يَدْخُلِ‏}‏ إلا إذا جعلته بدلاً فيكون عطفاً على المبدل منه‏.‏ ‏{‏الظانين بالله ظَنَّ السوء‏}‏ ظن الأمر السوء وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء‏}‏ دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏دَائِرَةُ السوء‏}‏ بالضم وهما لغتان، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما في الأصل مصدر ‏{‏وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ‏}‏ عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، والواو في الأخيرين والموضع موضع الفاء إذ اللعن سبب للاعداد، والغضب سبب له لاستقلال الكل في الوعيد بلا اعتبار النسبية‏.‏ ‏{‏وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏ جهنم‏.‏ ‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك شَاهِداً‏}‏ على أمتك‏.‏ ‏{‏وَمُبَشّراً وَنَذِيراً‏}‏ على الطاعة والمعصية‏.‏

‏{‏لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة، أو لهم على أن خطابه منزل منزلة خطابهم‏.‏ ‏{‏وَتُعَزّرُوهُ‏}‏ وتقووه بتقوية دينه ورسوله ‏{‏وَتُوَقّرُوهُ‏}‏ وتعظموه‏.‏ ‏{‏وَتُسَبّحُوهُ‏}‏ وتنزهوه أو تصلوا له‏.‏ ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ غدوة وعشياً أو دائماً‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، وقرئ«تعزروه» بسكون العين و«تعزروه» بفتح التاء وضم الزاي وكسرها و«تعززوه» بالزاءين «وَتُوَقّرُوهُ» من أوقره بمعنى وقره‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ لأنه المقصود ببيعته‏.‏ ‏{‏يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل‏.‏ ‏{‏فَمَن نَّكَثَ‏}‏ نقض العهد‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ‏}‏ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله‏}‏ في مبايعته ‏{‏فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ هو الجنة، وقرئ «عهد» وقرأ حفص ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح «فسنؤتيه» بالنون‏.‏ والآية نزلت في بيعة الرضوان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 19‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب‏}‏ هم أسلم وجهينة ومزينة وغفار استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فتخلفوا واعتلوا بالشغل بأموالهم وأهاليهم، وإنما خلفهم الخذلان وضعف العقيدة والخوف من مقاتلة قريش إن صدوهم‏.‏ ‏{‏شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا‏}‏ إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالهم، وقرئ بالتشديد للتكثير‏.‏ ‏{‏فاستغفر لَنَا‏}‏ من الله على التخلف‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ تكذيب لهم في الاعتذار والاستغفار‏.‏ ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً‏}‏ فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه‏.‏ ‏{‏إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً‏}‏ ما يضركم كقتل أو هزيمة أو خلل في المال والأهل عقوبة على التخلف، وقرأ حمزة والكسائي بالضم‏.‏ ‏{‏أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً‏}‏ ما يضاد ذلك، وهو تعريض بالرد‏.‏ ‏{‏بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ فيعلم تخلفكم وقصدكم فيه‏.‏

‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً‏}‏ لظنكم أن المشركين يستأصلونهم، وأهلون جمع أهل وقد يجمع على أهلات كأرضات على أن أصله أهلة وأما أهال فاسم جمع كليال‏.‏ ‏{‏وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ فتمكن فيها، وقرئ على البناء للفاعل وهو الله أو الشيطان‏.‏ ‏{‏وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء‏}‏ الظن المذكور، والمراد التسجيل عليه ب ‏{‏السوء‏}‏ أو هو وسائر ما يظنون بالله ورسوله من الأمور الزائغة‏.‏ ‏{‏وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً‏}‏ هالكين عند الله لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً‏}‏ وضع الكافرين موضع الضمير إيذاناً بأن من لم يجمع بين الإِيمان بالله ورسوله فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره، وتنكير سعيراً للتهويل أو لأنها نار مخصوصة‏.‏

‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ يدبره كيف يشاء‏.‏ ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ إذ لا وجوب عليه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ فإن الغفران والرحمة من ذاته والتعذيب داخل تحت قضائه بالعرض، ولذلك جاء في الحديث الإلهي ‏"‏ سبقت رحمتي غضبي ‏"‏ ‏{‏سَيَقُولُ المخلفون‏}‏ يعني المذكورين‏.‏ ‏{‏إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا‏}‏ يعني مغانم خيبر فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة فخصها بهم‏.‏ ‏{‏ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله‏}‏ أن يغيروه وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر، وقيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا‏}‏ والظاهر أنه في تبوك‏.‏ والكلام اسم للتكليم غلب في الجملة المفيدة وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» وهو جمع كلمة‏.‏ ‏{‏قُل لَّن تَتَّبِعُونَا‏}‏ نفي في معنى النهي‏.‏ ‏{‏كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ‏}‏‏.‏

من قبل تهيئهم للخروج إلى خيبر‏.‏ ‏{‏فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا‏}‏ أن يشارككم في الغنائم، وقرئ بالكسر‏.‏ ‏{‏بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ لا يفهمون‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ إلا فهما قليلاً وهو فطنتهم لأمور الدنيا، ومعنى الإِضراب الأول رد منهم أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات للحسد، والثاني رد من الله لذلك وإثبات لجهلهم بأمور الدين‏.‏

‏{‏قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب‏}‏ كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذم وإشعاراً بشناعة التخلف‏.‏ ‏{‏سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ بني حنيفة أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المشركين فإنه قال‏:‏ ‏{‏تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإِسلام لا غير كما دل عليه قراءة «أو يسلموا»، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية‏.‏ وهو يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذا لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة‏.‏ وقيل فارس والروم ومعنى ‏{‏يُسْلِمُونَ‏}‏ ينقادون ليتناول تقبلهم الجزية‏.‏ ‏{‏فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً‏}‏ هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ عن الحديبية‏.‏ ‏{‏يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ لتضاعف جرمكم‏.‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏ لما أوعد على التخلف نفي الحرج عن هؤلاء المعذورين استثناء لهم عن الوعيد‏.‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر‏}‏ فصل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته، ثم جبر ذلك بالتكرير على سبيل التعميم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ إذ الترهيب ها هنا أنفع من الترغيب، وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» و«نُعَذِّبُهُ» بالنون‏.‏

‏{‏لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة‏}‏ روي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفاً وثلثمائة أو وأربعمائة أو وخمسمائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفروا عنهم وكان جالساً تحت سمرة أو سدرة‏.‏ ‏{‏فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ من الإِخلاص‏.‏ ‏{‏فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ‏}‏ الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح‏.‏ ‏{‏وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ فتح خيبر غب انصرافهم، وقيل مكة أو هجر‏.‏

‏{‏وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا‏}‏ يعني مغانم خيبر‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏ غالباً مراعياً مقتضى الحكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 29‏]‏

‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏20‏)‏ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه‏}‏ يعني مقام خيبر‏.‏ ‏{‏وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ‏}‏ أي أيدي أهل خيبر وخلفائهم من بني أسد وغطفان، أو أيدي قريش بالصلح‏.‏ ‏{‏وَلِتَكُونَ‏}‏ هذه الكفة أو الغنيمة‏.‏ ‏{‏آيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أمارة يعرفون بها أنهم من الله بمكان، أو صدق الرسول في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية، أو وعد المغانم أو عنواناً لفتح مكة والعطف على محذوف هو علة ل ‏{‏كَفَّ‏}‏، أو «عجل» مثل لتسلموا، أو لتأخذوا أو العلة لمحذوف مثل فعل ذلك‏.‏ ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه‏.‏

‏{‏وأخرى‏}‏ ومغانم أخرى معطوفة على هذه، أو منصوبة بفعل يفسره ‏{‏قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا‏}‏ مثل قضى، ويحتمل رفعها بالابتداء لأنها موصوفة وجرها بإضمار رب‏.‏ ‏{‏لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا‏}‏ بعد لما كان فيها من الجولة‏.‏ ‏{‏قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا‏}‏ استولى فأظفركم بها وهي مغانم هوازن أو فارس‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً‏}‏ لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء‏.‏

‏{‏وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ‏}‏ من أهل مكة ولم يصالحوا‏.‏ ‏{‏لَوَلَّوُاْ الأدبار‏}‏ لانهزموا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً‏}‏ يحرسهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَصِيراً‏}‏ ينصرهم‏.‏

‏{‏سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ‏}‏ أي سنَّ غُلَّبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً‏}‏ تغييراً‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ‏}‏ أي أيدي كفار مكة‏.‏ ‏{‏وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ‏}‏ في داخل مكة‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أظهركم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد‏.‏ وقيل كان ذلك يوم الفتح واستشهد به على أن مكة فتحت عنوة وهو ضعيف إذ السورة نزلت قبله‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من مقاتلتهم أولاً طاعة لرسوله وكفهم ثانياً لتعظيم بيته، وقرأ أبو عمرو بالياء ‏{‏بَصِيراً‏}‏ فيجازيهم عليه‏.‏

‏{‏هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ يدل على أن ذلك كان عام الحديبية، والهدي ما يهدى إلى مكة‏.‏ وقرئ ‏{‏الهدي‏}‏ وهو فعيل بمعنى مفعول، ومحله مكانه الذي يحل فيه نحره والمراد مكانه المعهود وهو منى لا مكانه الذي لا يجوز أن ينحر في غيره، وإلا لما نحره الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أحصر فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ‏}‏ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين‏.‏

‏{‏أَن تطؤهم‏}‏ أن توقعوا بهم وتبيدهم قال‏:‏

وَوَطَئْتْنَا وَطْأْ عَلَى حَنَق *** وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِت الهَرَمِ

وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ إن آخر وطأة وطئها الله بوج ‏"‏ وهو وادٍ بالطائف كان آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم بها، وأصله الدوس وهو بدل الاشتمال من ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ ‏{‏وَنِسَاء‏}‏ أو من ضميرهم في ‏{‏تَعْلَمُوهُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ‏}‏ من جهتهم‏.‏ ‏{‏مَّعَرَّةٌ‏}‏ مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم وللتأسف عليهم، وتعيير الكفار بذلك والإِثم بالتقصير في البحث عنهم مفعلة عن عره إذا أعراه ما يكرهه‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ متعلق ب ‏{‏أَن تَطَؤُهُمْ‏}‏ أي تطؤوهم غير عالمين بهم، وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف لدلالة الكلام عليه، والمعنى ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم يصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم‏.‏ ‏{‏لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ علة لما دل عليه كف الأيدي عن أهل مكة صوناً لمن فيها من المؤمنين، أي كان ذلك ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير أو للإِسلام‏.‏ ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ من مؤمنيهم أو مشركيهم‏.‏ ‏{‏لَوْ تَزَيَّلُواْ‏}‏ لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض، وقرئ «تزايلوا»‏.‏ ‏{‏لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ بالقتل والسبي‏.‏

‏{‏إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ مقدر باذكر أو ظرف ‏{‏لَعَذَّبْنَا‏}‏ أو ‏{‏صَدُّوكُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فِى قُلُوبِهِمُ الحمية‏}‏ الأنفة‏.‏ ‏{‏حَمِيَّةَ الجاهلية‏}‏ التي تمنع إذعان الحق‏.‏ ‏{‏فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين‏}‏ فأنزل عليهم الثبات والوقار وذلك ما روي «أنه عليه الصلاة والسلام لما هم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع من عامه على أن يخلي له قريش مكة من القابل ثلاثة أيام، فأجابهم وكتبوا بينهم كتاباً، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال‏:‏ اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا‏:‏ لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اكتب ما يريدون ‏"‏ فَهَمَّ المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وتحملوا‏.‏ ‏{‏وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى‏}‏ كلمة الشهادة أو بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله اختارها لهم، أو الثبات والوفاء بالعهد وإضافة ال ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ إلى ‏{‏التقوى‏}‏ لأنها سببها أو كلمة أهلها‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا‏}‏ من غيرهم‏.‏ ‏{‏وَأَهْلُهَا‏}‏ والمستأهلين لها‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ عَلِيماً‏}‏ فيعلم أهل كل شيء وييسره له‏.‏

‏{‏لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا‏}‏ رأى عليه الصلاة والسلام أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أن ذلك يكون في عامهم، فلما تأخر قال بعضهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت فنزلت والمعنى صدقة في رؤياه‏.‏

‏{‏بالحق‏}‏ ملتبساً به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل، ويجوز أن يكون ‏{‏بالحق‏}‏ صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً ‏{‏بالحق‏}‏ وهو القصد إلى التمييز بين الثابت على الإِيمان والمتزلزل فيه، وأن يكون قسماً إما باسم الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام‏}‏ جوابه وعلى الأولين جواب قسم محذوف‏.‏ ‏{‏إِن شَاءَ الله‏}‏ تعليق للعدة‏.‏ بالمشيئة تعليماً للعباد، أو إشعاراً بأن بعضهم لا يدخل لموت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏.‏ ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ حال من الواو والشرط معترض‏.‏ ‏{‏مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ‏}‏ أي محلقاً بعضكم ومقصراً آخرون‏.‏ ‏{‏لاَ تخافون‏}‏ حال مؤكدة أو استئناف أي لا تخافون بعد ذلك‏.‏ ‏{‏فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ من الحكمة في تأخير ذلك‏.‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ‏}‏ من دون دخولكم المسجد أو فتح مكة‏.‏ ‏{‏فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ هو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الموعود‏.‏

‏{‏هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى‏}‏ ملتبساً به أو بسببه أو لأجله‏.‏ ‏{‏وَدِينِ الحق‏}‏ وبدين الإِسلام‏.‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ‏}‏ ليغلبه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقاً وإظهار فساد ما كان باطلاً، أو بتسليط المسلمين على أهله إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح‏.‏ ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات‏.‏

‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله‏}‏ جملة مبينة للمشهود به، ويجوز أن يكون ‏{‏رَسُولِ الله‏}‏ صفة و‏{‏مُحَمَّدٌ‏}‏ خبر محذوف أو مبتدأ‏:‏ ‏{‏والذين مَعَهُ‏}‏ معطوف عليه وخبرهما‏.‏ ‏{‏أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ و‏{‏أَشِدَّاء‏}‏ جمع شديد و‏{‏رُحَمَاء‏}‏ جمع رحيم، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين‏}‏ ‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً‏}‏ لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم‏.‏ ‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً‏}‏ الثواب والرضا‏.‏ ‏{‏سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود‏}‏ يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة و‏{‏مّنْ أَثَرِ السجود‏}‏ بيانها أو حال من المستكن في الجار‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الوصف المذكور‏.‏ أو إشارة مبهمة يفسرها ‏{‏كَزَرْعٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ فِى التوراة‏}‏ صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها‏.‏ ‏{‏وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل‏}‏ عطف عليه أن ذلك مثلهم في الكتابين وقوله‏:‏ ‏{‏كَزَرْعٍ‏}‏ تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و‏{‏كَزَرْعٍ‏}‏ خبره‏.‏

‏{‏أَخْرَجَ شَطْأَهُ‏}‏ فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان ‏{‏شَطْأَهُ‏}‏ بفتحات وهو لغة فيه، وقرئ «شطاه» بتخفيف الهمزة و«شطاءه» بالمد و«شطه» بنقل حركة الهمزة وحذفها و«شطوه» بقلبها واواً‏.‏ ‏{‏فَآزَرَهُ‏}‏ فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان ‏{‏فَأزَرَهُ‏}‏ كأجره في آجره‏.‏ ‏{‏فاستغلظ‏}‏ فصار من الدقة إلى الغلظ‏.‏ ‏{‏فاستوى على سُوقِهِ‏}‏ فاستقام على قصبه جمع ساق، وعن ابن كثير «سؤقه» بالهمزة‏.‏ ‏{‏يُعْجِبُ الزراع‏}‏ بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإِسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس‏.‏ ‏{‏لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار‏}‏ علة لتشبيههم بالزرع في زكاته واستحكامه أو لقوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام فتح مكة ‏"‏‏.‏

سورة الحجرات

مدنية وآيها ثما ني عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ‏}‏ أي لا تقدموا أمراً، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأساً أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم، ويؤيده قراءة يعقوب«لاَ تُقَدّمُواْ»‏.‏ وقرئ «لاَ تُقَدّمُواْ» من القدوم‏.‏ ‏{‏بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجيناً لما نهوا عنه، والمعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به‏.‏ وقيل المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في التقديم أو مخالفة الحكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لأقوالكم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بأفعالكم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى‏}‏ أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ‏}‏ ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب‏.‏ وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به‏.‏ ‏{‏أَن تَحْبَطَ أعمالكم‏}‏ كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإِهانة وعدم المبالاة‏.‏ وقد روي‏:‏ أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهورياً، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال‏:‏ يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة ‏"‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ أنها محبطة‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم‏}‏ يخفضونها‏.‏ ‏{‏عِندَ رَسُولِ الله‏}‏ مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي‏.‏ قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى‏}‏ جربها للتقوى ومرنها عليها، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه‏.‏ ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لذنوبهم‏.‏ ‏{‏وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لغضهم وسائر طاعاتهم، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن أو استئناف لبيان ما هو جزاء الغاضين إحماداً لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ إسم الإِشارة المتضمن لما جعل عنواناً لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له، وتعريضاً بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك‏.‏

‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات‏}‏ من خارجها خلفها أو قدامها، ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء، وفائدتها الدلالة على أن المنادي داخل الحجرة إذ لا بد وأن يختلف المبتدأ والمنتهى بالجهة، وقرئ «الحجرات» بفتح الجيم، وسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط، ولذلك يقال لحظيرة الإِبل حجرة‏.‏ وهي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة، والمراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة والسلام وفيها كناية عن خلوته بالنساء ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من روائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل‏.‏ وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به، أو لأنه وجد فيما بينهم‏.‏ ‏{‏أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم، فإن أن وإن دلت بما في حيزها على المصدر دلت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغنياً بخروجه، فإن حتى مختصة بغاية الشيء في نفسه ولذلك تقول‏:‏ أكلت السمكة حتى رأسها، ولا تقول حتى نصفها، بخلاف إلى فإنها عامة، وفي ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم‏.‏ ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإِسعاف بالمسؤول إذ روي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر فأطلق النصف وفادى النصف‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ فتعرفوا وتصفحوا، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت‏.‏ وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع، وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال‏.‏ ‏{‏أَنْ تُصِيبُوا‏}‏ كراهة إصابتكم‏.‏ ‏{‏قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ‏}‏ جاهلين بحالهم‏.‏ ‏{‏فَتُصْبِحُواْ‏}‏ فتصيروا‏.‏ ‏{‏على مَا فَعَلْتُمْ نادمين‏}‏ مغتمين غما لازماً متمنين أنه لم يقع، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام‏.‏

‏{‏واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله‏}‏ أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ‏}‏ فإنه حال من أحد ضميري فيكم، ولو جعل استئنافاً لم يظهر للأمر فائدة‏.‏ والمعنى أن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث، ولو فعل ذلك ‏{‏لَعَنِتُّمْ‏}‏ أي لوقعتم في الجهد من العنت، وفيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإِيقاع ببني المصطلق وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان‏}‏ استدراك ببيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإِيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون‏}‏ أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي، ‏{‏وَكَرَّهَ‏}‏ يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر، لكنه لما تضمن معنى التبعيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر‏.‏ و‏{‏الكفر‏}‏‏:‏ تغطية نعم الله بالجحود‏.‏ ‏{‏والفسوق‏}‏‏:‏ الخروج عن القصد ‏{‏والعصيان‏}‏‏:‏ الامتناع عن الانقياد‏.‏

‏{‏فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً‏}‏ تعليل ل ‏{‏كَرِهَ‏}‏ أو ‏{‏حَبَّبَ‏}‏، وما بينهما اعتراض لا ل ‏{‏الرشدون‏}‏ فإن الفضل فعل الله، والرشد وإن كان مسبباً عن فعله مسند إلى ضميرهم أو مصدر لغير فعله فإن التحبيب والرشد فضل من الله وإنعام‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حيث يفضل وينعم بالتوفيق عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا‏}‏ تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع‏.‏ ‏{‏فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا‏}‏ بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى‏.‏ ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى‏}‏ تعدت عليها‏.‏ ‏{‏فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله‏}‏ ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين‏.‏ ‏{‏فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل‏}‏ بفصل ما بينهما على ما حكم الله، وتقييد الإِصلاح بالعدل ها هنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة‏.‏ ‏{‏وَأَقْسِطُواْ‏}‏ واعدلوا في كل الأمور‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏ يحمد فعلهم بحسن الجزاء‏.‏ والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة‏.‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ‏}‏ من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإِيمان الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإِصلاح ولذلك كرره مرتباً عليه بالفاء فقال‏:‏ ‏{‏فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق‏.‏ وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج‏.‏ وقرئ «بين إخوتكم» و«إخوانكم»‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفة حكمه والإِهمال فيه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ على تقواكم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مّن نّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ‏}‏ أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و‏{‏عَسَى‏}‏ باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإِغناء الاسم عنه‏.‏ وقرئ «عسوا أن يكونا» و«عسين أن يكن» فهي على هذا ذات خبر‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي ولا يغتب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه‏.‏ واللمز الطعن باللسان‏.‏ وقرأ يعقوب بالضم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب‏}‏ ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفاً‏.‏

‏{‏بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان‏}‏ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإِيمان واشتهارهم به، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق وإلى المؤمنين خصوصاً إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام» أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح‏.‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَتُبْ‏}‏ عما نهى عنه‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب‏.‏

‏{‏ا يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن‏}‏ كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يحالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية‏.‏ ‏{‏إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ‏}‏ مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه‏.‏ والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُواْ‏}‏ ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس‏.‏ وفي الحديث «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته» ‏{‏وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً‏}‏ ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته‏.‏ وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال‏:‏ «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» ‏{‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً‏}‏ تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان وجعل المأكول أخاً وميتاً وتعقيب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَكَرِهْتُمُوهُ‏}‏ تقريراً وتحقيقاً لذلك‏.‏ والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، وانتصاب ‏{‏مَيْتًا‏}‏ على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع‏.‏ ‏{‏واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، والمبالغة في ال ‏{‏تَوَّابٌ‏}‏ لأنه بليغ في قبول التوبة إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم، روي‏:‏ أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً، وكان أسامة على طعامه فقال‏:‏ ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا‏:‏ لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما‏:‏ «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما»، فقالا‏:‏ ما تناولنا لحماً، فقال‏:‏ «إنكما قد اغتبتما» فنزلت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى‏}‏ من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب‏.‏ ويجوز أن يكون تقريراً للأخوة المانعة عن الاغتياب‏.‏ ‏{‏وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ‏}‏ الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل‏.‏ والقبيلة تجمع العمائر‏.‏ والعمارة تجمع البطون‏.‏ والبطن تجمع الأفخاذ‏.‏ والفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيلة‏.‏ وقبل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب‏.‏ ‏{‏لتعارفوا‏}‏ ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر بالآباء والقبائل‏.‏ وقرئ ‏{‏لتعارفوا‏}‏ بالإِدغام و«لتتعارفوا» و«لتعرفوا»‏.‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم‏}‏ فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفاً فليلتمسه منها كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ‏"‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله ‏"‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ بكم ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ ببواطنكم‏.‏

‏{‏قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا‏}‏ نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون‏.‏ ‏{‏قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ إذ الإِيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإِسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة‏.‏ ‏{‏ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏ فإن الإِسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا ‏{‏ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإِيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً‏.‏ ‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ توقيت ل ‏{‏قُولُواْ‏}‏ فإنه حال من ضميره أي‏:‏ ‏{‏ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏ ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد‏.‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ بالإِخلاص وترك النفاق‏.‏ ‏{‏لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم‏}‏ لا ينقصكم من أجورها‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من لات يليت ليتا إذا نقص، وقرأ البصريان «لا يألتكم» من الألت وهو لغة غطفان‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لما فرط من المطيعين‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بالتفضل عليهم‏.‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ‏}‏ لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإِيمان عنهم، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإِيمان ليس حال الإِيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله‏:‏

‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون‏}‏ الذين صدقوا في إدعاء الإِيمان‏.‏

‏{‏قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ‏}‏ أتخبرونه به بقولكم ‏{‏آمنا‏}‏‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ‏.‏ روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاؤوا وخلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية‏.‏

‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ‏}‏ يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته‏.‏ وقيل النعمة الثقيلة من المن‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم‏}‏ أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال‏.‏ ‏{‏بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان‏}‏ على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، وقرئ «إن هَداكُمْ» بالكسر و‏{‏إِذْ هَداكُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في ادعاء الإِيمان، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيماناً ومنوا به فنفى أنه إيماٌن وسماه إسلاماً بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإِيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض‏}‏ ما غاب فيهما‏.‏ ‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، وقرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه ‏"‏‏.‏

سورة ق

مكية وهي خمس وأربعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏ق والقرءان المجيد‏}‏ الكلام فيه كما مر في ‏{‏ص والقرءان ذِى الذكر‏}‏ و‏{‏المجيد‏}‏ ذو المجد والشرف على سائر الكتب، أو لأنه كلام المجيد، أو لأن من علم معانيه وامتثل أحكامه مجد‏.‏

‏{‏بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم أحد من جنسهم أو من أبناء جلدتهم‏.‏ ‏{‏فَقَالَ الكافرون هذا شَئ عَجِيبٌ‏}‏ حكاية لتعجبهم، وهذا إشارة إلى اختيار الله محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة، وإضمار ذكرهم ثم إظهاره للاشعار بتعنتهم بهذا المقال، ثم التسجيل على كفرهم بذلك أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، والمبالغة فيه بوضع الظاهر موضع ضميرهم وحكاية تعجبهم مبهماً إن كانت الإِشارة إلى منهم يفسره ما بعده، أو مجملاً إن أهون مما يشاهدون من صنعه‏.‏

‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً‏}‏ أي أنرجع إذا متنا وصرنا تراباً، ويدل على المحذوف قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ‏}‏ أي بعيد عن الوهم أو العادة أو الإِمكان‏.‏ وقيل الرجع بمعنى المرجوع‏.‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ‏}‏ ما تأكل من أجساد موتاهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه، وقيل إنه جواب القسم واللام محذوف لطول الكلام‏.‏ ‏{‏وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ‏}‏ حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، والمراد إما تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه، أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده‏.‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالحق‏}‏ يعني النبوة الثابتة بالمعجزات، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآن‏.‏ ‏{‏لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ‏}‏ وقرئ «لَّمّاً» بالكسر‏.‏ ‏{‏فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ‏}‏ مضطرب من مرج الخاتم في أصبعه إذا خرج، وذلك قولهم تارة أنه ‏{‏شَاعِرٌ‏}‏ وتارة أنه ‏{‏ساحر‏}‏ وتارة أنه كاهن‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَنظُرُواْ‏}‏ حين كفروا بالبعث‏.‏ ‏{‏إِلَى السماء فَوْقَهُمْ‏}‏ إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم‏.‏ ‏{‏كَيْفَ بنيناها‏}‏ رفعناها بلا عمد‏.‏ ‏{‏وزيناها‏}‏ بالكواكب‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ فتوق بأن خلقها ملساء متلاصقة الطباق‏.‏

‏{‏والأرض مددناها‏}‏ بسطناها‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً ثوابت‏.‏ ‏{‏وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ‏}‏ أي من كل صنف‏.‏ ‏{‏بَهِيجٍ‏}‏ حسن‏.‏

‏{‏تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏ راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه، وهما علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبنا عن الفعل الأخير‏.‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا‏}‏ كثير المنافع ‏{‏فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات‏}‏ أشجاراً وأثماراً‏.‏ ‏{‏وَحَبَّ الحصيد‏}‏ وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبر والشعير‏.‏

‏{‏والنخل باسقات‏}‏ طوالاً أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من أفعل فهو فاعل، وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها‏.‏

وقرئ لأجل القاف‏.‏ ‏{‏لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ‏}‏ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر‏.‏

‏{‏رّزْقاً لّلْعِبَادِ‏}‏ علة ل ‏{‏أَنبَتْنَا‏}‏ أو مصدر، فإن الإِنبات رزق‏.‏ ‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ‏}‏ بذلك الماء‏.‏ ‏{‏بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ أرضاً جدبة لا نماء فيها‏.‏ ‏{‏كذلك الخروج‏}‏ كما حييت هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ‏}‏ أراد بفرعون إياه وقومه ليلائم ما قبله وما بعده‏.‏ ‏{‏وإخوان لُوطٍ‏}‏ أخدانه لأنهم كانوا أصهاره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وأصحاب الأيكة وَقَوْمُ تُّبَّعٍ‏}‏ سبق في «الحجر» و«الدخان» ‏{‏كُلٌّ كَذَّبَ الرسل‏}‏ أي كل واحد أو قوم منهم أو جميعهم، وإفراد الضمير لإِفراد لفظه‏.‏ ‏{‏فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏ فوجب وحل عليه وعيدي، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم‏.‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بالخلق الأول‏}‏ أي أفعجزنا عن الإِبداء حتى نعجز عن الإِعادة، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإِنكار‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط، وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه والإِشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏ ما تحدثه به نفسه وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلي، والضمير لما إن جعلت موصولة والباء مثلها في صوت بكذا، أو ل ‏{‏الإنسان‏}‏ إن جعلت مصدرية والباء للتعدية‏.‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏ أي ونحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه ‏{‏مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏، تجوز بقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبة و‏{‏حَبْلِ الوريد‏}‏ مثل في القرب قال‏:‏

والموت أدنى من الوريد *** وال ‏{‏حَبْلِ‏}‏ العرق وإضافته للبيان، والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها بالوتين يردان من الرأس إليه، وقيل سمي وريداً لأن الروح ترده‏.‏

‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان‏}‏ مقدر باذكر أو متعلق ب ‏{‏أَقْرَبُ‏}‏، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء وإلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد‏.‏ ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ‏}‏ أي ‏{‏عَنِ اليمين‏}‏ قعيد ‏{‏وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ‏}‏، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله

‏:‏

فإني وقيار بها لغريب *** وقد يطلق الفعل للواحد والمتعدد كقوله تعالى ‏{‏وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ‏}‏ ‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ‏}‏ ما يرمي به من فيه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ‏}‏ ملك يرقب عمله‏.‏ ‏{‏عَتِيدٌ‏}‏ معد حاضر، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب وفي الحديث ‏"‏ كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ‏"‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ‏}‏ لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت وقيام الساعة، ونبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي، وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء للتعدية كما في قولك‏:‏ جاء زيد بعمرو‏.‏

والمعنى وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر أو الموعود الحق، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء، فإن الإِنسان خلق له أو مثل الباء في ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ وقرئ «سكرة الحق بالموت» على أنها لشدتها اقتضت الزهوق أو لاستعقابها له كأنها جاءت به، أو على أن الباء بمعنى مع‏.‏ وقيل ‏{‏سَكْرَةُ الحق‏}‏ سكرة الله وإضافتها إليه للتهويل‏.‏ وقرئ «سكرات الموت»‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الموت‏.‏ ‏{‏مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏ تميل وتنفر عنه والخطاب للإِنسان‏.‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ يعني نفخة البعث‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد‏}‏ أي وقت ذلك يوم تحقق الوعيد وإنجازه والإِشارة إلى مصدر ‏{‏نُفِخَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ ملكان أحدهما يسوقه والآخر يشهد بعمله، أو ملك جامع للوصفين‏.‏ وقيل السائق كاتب السيئات، والشهيد كاتب الحسنات‏.‏ وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله، ومحل ‏{‏مَّعَهَا‏}‏ النصب على الحال من كل لإِضافته إلى ما هو في حكم المعرفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 30‏]‏

‏{‏لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا‏}‏ على إضمار القول والخطاب ‏{‏لِكُلّ نَفْسٍ‏}‏ إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكافر‏.‏ ‏{‏فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ‏}‏ الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة، والانهماك في المحسوسات والإِلف بها وقصور النظر عليها‏.‏ ‏{‏فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ نافذ لزوال المانع للأبصار‏.‏ وقيل الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى‏:‏ كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن، ‏{‏فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون‏.‏ ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس‏.‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ‏}‏ قال الملك الموكل عليه‏.‏ ‏{‏هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ‏}‏ هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لدي، أو الشيطان الذي قيض له هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم هيأته لها باغوائي وإضلالي، و‏{‏مَا‏}‏ إن جعلت موصوفة ف ‏{‏عَتِيدٌ‏}‏ صفتها وإن جعلت موصولة فبدلها أو خبر بعد خبر أو خبر محذوف‏.‏

‏{‏أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد، أو الملكين من خزنة النار، أو لواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كقوله‏:‏

فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِر *** وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمٍ عِرْضاً مُمنعاً

أَو الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، ويؤيده أنه قرئ «ألقين» بالنون الخفيفة‏.‏ ‏{‏عَنِيدٍ‏}‏ معاند للحق‏.‏

‏{‏مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ‏}‏ كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة‏.‏ وقيل المراد بالخير الإِسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه‏.‏ ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ متعد‏.‏ ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ شاك في الله وفي دينه‏.‏

‏{‏الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ مبتدأ متضمن معنى الشرط وخبره‏.‏ ‏{‏فألقياه فِى العذاب الشديد‏}‏ أو بدل من ‏{‏كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ فيكون ‏{‏فألقياه‏}‏ تكريراً للتوكيد، أو مفعول لمضمر يفسره ‏{‏فألقياه‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ قرِينُهُ‏}‏ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول فإنه جواب لمحذوف دل عليه‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ‏}‏ كأن الكافر قال هو أطغاني ف ‏{‏قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ‏}‏ بخلاف الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها للدلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه‏:‏ ‏{‏ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ‏}‏ فأعنته عليه فإن إغواء الشياطين إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي مائلاً إلى الفجور كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى‏}‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله تعالى‏.‏ ‏{‏لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ‏}‏ أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه، وهو استئناف مثل الأول‏.‏

‏{‏وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد‏}‏ على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة‏.‏ وهو حال تعليل للنهي أي ‏{‏لاَ تَخْتَصِمُواْ‏}‏ عالمين بأني أوعدتكم، والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم، ويجوز أن يكون ‏{‏بالوعيد‏}‏ حالاً والفعل واقعاً على قوله‏:‏

‏{‏مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ‏}‏ أي بوقوع الخلف فيه فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي‏.‏ وعفو بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ فأعذب من ليس لي تعذيبه‏.‏

‏{‏يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلات وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏ سؤال وجواب جيء بهما للتخييل والتصوير، والمعنى أنها مع اتساعها تطرح فيها الجنة والناس فوجاً فوجاً حتى تمتلئ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ‏}‏ أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ، أو أنها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثرة لهم والطالبة لزيادتهم‏.‏ وقرأ نافع وأبو بكر يقول بالباء وال ‏{‏مَّزِيدٍ‏}‏ إما مصدر كالمحيد أو مفعول كالمبيع، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ مقدر باذكر أو ظرف ل ‏{‏نُفِخَ‏}‏ فيكون ذلك إشارة إليه فلا يفتقر إلى تقدير مضاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‏(‏31‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‏(‏32‏)‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏(‏33‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ‏(‏34‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‏(‏35‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏36‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ‏(‏38‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ‏(‏39‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ قربت لهم‏.‏ ‏{‏غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون حالاً وتذكيره لأنه صفة محذوف، أو شيئاً غير بعيد أو على زنة المصدر أو لأن الجنة بمعنى البستان‏.‏

‏{‏هذا مَا تُوعَدُونَ‏}‏ على إضمار القول والإِشارة إلى الثواب أو مصدر ‏{‏أُزْلِفَتْ‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير بالياء‏.‏ ‏{‏لِكُلّ أَوَّابٍ‏}‏ رجاع إلى الله تعالى، بدل من «المتقين» بإعادة الجار‏.‏ ‏{‏حَفِيظٌ‏}‏ حافظ لحدوده‏.‏

‏{‏مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ‏}‏ بعد بدل أو بدل من موصوف ‏{‏أَوَّابٌ‏}‏، ولا يجوز أن يكون في حكمه لأن ‏{‏مِنْ‏}‏ لا يوصف به أو مبتدأ خبره‏.‏

‏{‏ادخلوها‏}‏ على تأويل يقال لهم ‏{‏ادخلوها‏}‏، فإن من بمعنى الجمع وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول، أو صفة لمصدر أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب، أو العقاب بعد غيب أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد‏.‏ وتخصيص ‏{‏الرحمن‏}‏ للإِشعار بأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، أو بأنهم يخشون مع علمهم بسعة رحمته، ووصف القلب بالإِنابة إذ الاعتبار برجوعه إلى الله‏.‏ ‏{‏بِسَلامٍ‏}‏ سالمين من العذاب وزوال النقم، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ الخلود‏}‏ يوم تقدير الخلود كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ ‏{‏لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ وهو ما لا يخطر ببالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‏.‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل قومك‏.‏ ‏{‏مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً‏}‏ قوة كعاد وثمود وفرعون‏.‏ ‏{‏فَنَقَّبُواْ فِى البلاد‏}‏ فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه‏.‏ ‏{‏هَلْ مِن مَّحِيصٍ‏}‏ أي لهم من الله أو من الموت‏.‏ وقيل الضمير في ‏{‏نَقَّبُوا‏}‏ لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصاً حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم، ويؤيده أنه قرئ «فَنَقَّبُواْ» على الأمر، وقرئ «فَنَقَّبُواْ» بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ فيما ذكر في هذه السورة‏.‏ ‏{‏لِذِكْرِى‏}‏ لتذكرة‏.‏ ‏{‏لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ‏}‏ أي قلب واع يتفكر في حقائقه‏.‏ ‏{‏أَوْ أَلْقَى السمع‏}‏ أي أصغى لاستماعه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ حاضر بذهنه ليفهم معانيه، أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره، وفي تنكير ال ‏{‏قَلْبٌ‏}‏ وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كلا قلب‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا * السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ مر تفسيره مراراً‏.‏

‏{‏وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ من تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش‏.‏

‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا عياء قدر على بعثهم والانتقام منهم، أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه‏.‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ ونزهه عن العجز عما يمكن والوصف بما يوجب التشبيه حامداً له على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها‏.‏ ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب‏}‏ يعني الفجر والعصر وقد عرفت فضيلة الوقتين‏.‏

‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ‏}‏ أي وسبحه بعض الليل‏.‏ ‏{‏وأدبار السجود‏}‏ وأعقاب الصلوات جمع دبر من أدبر، وقرأ الحجازيان وحمزة وخلف بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت‏.‏ وقيل المراد بالتسبيح الصلاة، فالصلاة قبل طلوع الصبح وقبل الغروب‏:‏ الظهر، والعصر‏.‏ ومن الليل‏:‏ العشاءان، والتهجد وأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات‏.‏ وقيل الوتر بعد العشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ‏(‏42‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ‏(‏43‏)‏ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ‏(‏44‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏واستمع‏}‏ لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفيه تهويل وتعظيم للمخبر به‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يُنَادِ المناد‏}‏ إسرافيل أو جبريل عليهما الصلاة والسلام فيقول‏:‏ أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء‏.‏ ‏{‏مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء، ولعله في الإِعادة نظيركن في الإِبداء، ويوم نصب بما دل عليه يوم الخروج‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة‏}‏ بدل منه و‏{‏الصيحة‏}‏ النفخة الثانية‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق ب ‏{‏الصيحة‏}‏ والمراد به البعث للجزاء‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ الخروج‏}‏ من القبور، وهو من أسماء يوم القيامة وقد يقال للعيد‏.‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْنَا المصير‏}‏ للجزاء في الآخرة‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَشَقَّقُ‏}‏ تتشقق، وقرى «تنشق»‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو بتخفيف الشين‏.‏ ‏{‏الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً‏}‏ مسرعين‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ حَشْرٌ‏}‏ بعث وجمع‏.‏ ‏{‏عَلَيْنَا يَسِيرٌ‏}‏ هين، وتقديم الظرف للاختصاص فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ بمسلط تقسرهم على الإِيمان، أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت داع‏.‏ ‏{‏فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ فإنه لا ينتفع به غيره‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة «ق» هون الله عليه تارات الموت وسكراته ‏"‏ والله أعلم‏.‏